الخميس، 15 نوفمبر 2012

بنت "الخليفة" و"الخليفة" جدها، وأخت "الخلفاء" والخليفة زوجها


الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ما الذي يجعل من امرأة تفردت في الوصف بكونها بنت "الخليفة" و"الخليفة" جدها، وأخت "الخلفاء" والخليفة زوجها تتخلى عن حياة الأميرات المدللات المنعمات بنعيم القصور وتختار حياة التقشف والشظف ؟ ومَنْ تلك التي ترضى بهذا التحول المفاجئ من سيدة آمرة ناهية إلى امرأة بسيطة تغسل ثوب زوجها، وتعجن العجين وتطهو الطعام بلا خدم ولا حشم؟ إنه الطمع فيما عند الله الذي يبدد الطمع فيما سواه، ويجعل من زخارف الدنيا وزينتها – مهما كثرت- شيئا هينا لا قيمة له ولا وزن، إذا ما قُورن بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون.
تلك هي قصة السيدة فاطمة بنت عبد الملك زوج الخليفة الراشدي سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
على أثر أمهات المؤمنين

لم يكن التوجيه الرباني لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بإيثار الله ورسوله والدارة الآخرة على الدنيا وزخرفها إلا ليَكُن، رضي الله عنهن، ذلك النموذج الخالد لنساء الدهر باختلاف أزمانهن وظروفهن وحال معاشهن.. وذلك في قوله عز وجل:" يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما" الأحزاب، الآيتنان29-28.
والناظر في تاريخ النساء اللواتي تعرضن لمثل هذا الاختبار الصعب حقا، لا يمر إلا ويستوقفه الموقف الخالد للسيدة فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله. التي وُهبت من الحسن والجمال والحظوة والجاه ما يجعلها من أكثر النساء انسياقا مع زينة الدنيا وزخرفها. لكن الله عز وجل منّ عليها بأن كانت على أثر أمهات المومنين رضي الله عنهن.
إذ بين عشية وضحاها يَختار لها القدر الرباني عيشة المساكين والفقراء.. فتدور رحمها الله مع قدر الله حيث دار غير ضَجرة ولا متبرمة بعد أن تخلت صحبةَ زوجها عمر بن عبد العزيز عن حياة الملوك والقصور.. ويدخل عليها رضي الله عنه في يوم من أيام خلافته، فإذا بها تخيط ثوبه بيدها فتذكر تلك الأيام التي كانت فيها في قصر السلطنة منعمة مكرمة تعيش في رغد من العيش، تشير ببنانها فتلبي الجواري إشارتها وتتمنى وسرعان ما تتحقق أمنيتها. فأراد أن يداعبها ويخفف عنها فدنا منها وقال:" يا فاطمة لنحن في ليالي دابق أنعم منا اليوم"، فقالت فاطمة للخليفة الذي يرتدي أخشن الثياب:" والله ما كنت على ذلك يومئذ أقدر منك اليوم". فقال:" يا فاطمة، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" فسكتت رضي الله عنها قانعة راضية.

طاعة من طاعة الله ووفاء نادر

عاشت السيدة فاطمة وزوجها الفاضل على نهج الخلفاء الراشدين ونمط حياتهم في العيش والاعتماد بعد الله تعالى على كد اليد بعيدا عن أموال المسلمين. وبقيت رحمها الله معه على ذلك حتى آخر لحظات حياته. وتستمر رضي الله عنها مخلصة وفية لزوجها حتى بعد وفاته. فبعد رحيله رضي الله عنه إلى ربه، آل أمر السلطان من بعده إلى أخيها يزيد بن عبد الملك الذي رَدَّ إليها أموالَها وجواهرَها، لكنها أبت أن تأخذها، فإن كان عمر قد رحل فإن وجه الله باق وأجابته قٌائلة :"والله لا أطيعه حيا وأعصيه ميتا". وفي رواية :" فرد عليها أخوها يزيد بن عبد الملك ذلك فامتنعت من أخذه وقالت:" ما كنت لأتركه ثم آخذه. فقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه".1 ( : من كتاب " سيرة عمر بن عبد العزيز عبد الله بن الحكم، على ما رواه الإمام أنس وأصحابه.

فاطمة مدرسة للاقتداء

كانت السيدة فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله كما وصفها أصحاب السير، تقية وَرعَة في دين الله، متواضعة في عزّة، صابرة على الطاعة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ذات عقل وتدين كبير، أديبة "تحفظ الشعر والنثر إلى جانب ما تيسر من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، صحبت زوجها فأحسنت صحبته حيا وميتا، ولها معه مواقف رائعة جعلتها مثالا للمرأة المسلمة والزوجة الصالحة، وقدوة مضيئة لمن أراد أن يقتدي بسيدة فاضلة" ابن كثير، البداية والنهاية 9/201.
فاستحقت بحق أن تكون مدرسة نتعلم منها مناقب الخير، وعلى رأسها خصلة إيثار ما عند الله، وفضيلة الصبر على المحن، والتسليم بالقضاء والقدر، ومعاشرة الزوج بما يرضي الله تعالى وَفْقَ المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. إنها بحق نموذج للصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، وموعظة لكل لاهية في زينتها، ومستهترة بدينها وعاصية لربها ومن له الحق عليها. جعلنا الله في جوار من كان لهن قدم الصدق والسبق عند الله آمين. والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق